Overblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
26 janvier 2013 6 26 /01 /janvier /2013 19:22

 

 

 

عصر الثورة 

الماركسية في الألفية الجديدة 

 

توني كليف 

 

ترجمة: أشرف عمر 

 

 

مركز الدراسات الاشتراكية 

 

 

 

 

 

تعريف بالمؤلف

 

وُلد توني كليف في فلسطين في عام 1917، ذلك العام الذي اندلعت فيه الثورة الروسية. في الثلاثنيات تبنى كليف الاشتراكية الثورية وأصبح من أتباع ليون تروتسكي، وبعد العمل لبناء مجموعة ثورية صغيرة في فلسطين، سافر توني كليف إلى بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. انتقد توني كليف التروتسكية الأرثوذكسية بعد دراساته العميقة للاتحاد السوفيتي ودول الكتلة الشرقية، حيث توصل لاستنتاج هام مفاده أن الأنظمة الحاكمة في تلك الدول ليست أنظمة عمالية بيروقراطية كما كان يعتقد التروتسكيين الأرثوذكس، بل أنظمة رأسمالية الدولة.

 

وفي بريطانيا، أسس كليف مجموعة لتحرير مجلة الاشتراكي، التي أصبحت في الستينات "مجموعة الاشتراكيين الأمميين"، وتحولت إلى حزب العمال الاشتراكي في السبعينات. لتوني كليف العديد من المؤلفات الهامة، منها كتاب من ثلاث مجلدات عن السيرة الذاتية للثوري الروسي فلاديمير لينين، وآخر من أربع مجلدات عن سيرة ليون تروتسكي. فضلاً عن كتب أخرى مثل "التروتسكية بعد تروتسكي"، و"رأسمالية الدولة في روسيا" الذي تم ترجمته إلى اللغة العربية وقام مركز الدراسات الاشتراكية بإصداره. 

 

وقد توفى كليف في أبريل 2000، بعد أن كتب سيرته الذاتية والتي نُشرت بعد وفاته بفترة قصيرة بعنوان "مازال هناك عالم لنكسبه: حياة ثوري".

 

يضم هذا الكتاب عدداً من المقالات التي كتبها توني كليف في العام الأخير من حياته للمنظمات الاشتراكية الثورية في ألمانيا وتركيا. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

عصر الثورة الجماهيرية

 

في مصر، كما في أنحاء متفرقة من العالم، نعيش اليوم عصراً جديداً من الثورات الجماهيرية الضخمة التي زلزلت عروشاً لم يكن يتخيل أحد أنها يمكن حتى أن تهتز. نعم فعلتها الجماهير في تونس ومصر، ويأتي الدور على بقية الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية وغيرها. فعلتها الجماهير العريضة بنفسها دون الحاجة إلى انقلابات جيوش أو قصور أو تحرر على يد أقلية متمردة على الطغيان. 

 

لكن الثورة ليست نزهة يمكن أن تنتهي في ليلة وضحاها أو حتى في عدة أسابيع؛ فالطبقة الحاكمة بكل ما تملكه من سلطة ونفوذ لا يمكن أن تختفي بالكامل أو تخور قواها أثناء زلازل الانتقاضات بسهولة أو في وقت قصير، بل يمكنها أن تصمد وسط العاصفة حتى مع الكثير من الخسائر. وفي الوقت الذي تستمر فيه الثورة وتتقدم كل يوم خطوة على الأرض، تحاول الطبقة الحاكمة باستماتة أن تنظم صفوفها جيداً من أجل شن الثورة المضادة، وهذا بالضبط ما نشهده اليوم. 

 

هذا الوضع المليء بالتعقيدات والتشابكات ما بين الثورة والثورة المضادة يمكن فهمه، وبالتالي التعامل معه، من أكثر من منظور. فمن أراد إزاحة الديكتاتور سيتجاهل الثورة المضادة أو سيقف عملياً في صفوفها، فما أراده قد تم تنفيذه بالفعل ولا حاجة للمزيد. ومن يريد تغيير النظام "السياسي" وتطهيره من الرموز الفاسدة القديمة سيسير في طريقه، ربما إلى النهاية، لكنه سيتجاهل صخب المطالب الاجتماعية للملايين التي تنادي بتغييرات أكثر جذرية. أما من يسعى لتغيير المنظومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية القائمة سيسعى في القلب من الملايين لاستكمال الثورة ونسف النظام من قواعده. 

 

وما يحدث اليوم ليس جديداً أو مختلفاً عن ثورات التاريخ؛ ففي كل الثورات تنفجر حالة من الاستقطاب العنيف بين الأطراف المختلفة.. الطبقة الحاكمة تسعى للإجهاز على الثورة واستيعابها حتى وإن كان بتقديم المزيد من التنازلات أو بتقديم أكباش فداء.. والإصلاحيون الذين كانوا يسخرون من قدرة الجماهير على الثورة، يتحولون إلى محافظين يعترفون بالثورة وقيمها وإنجازاتها لكن يسعون للتهدئة والحفاظ على الأوضاع ما بعد الانتفاضة ويحاولون دوماً تحويل الثورة إلى مجرد أيقونة مفرغة من المضمون.. أما الجماهير الثورية فتحاول استكمال مسيرة الانتفاضة والبناء على ما حققته من مكاسب سياسية إلى الثورة الاجتماعية. 

 

وعلى مدار القرن السابق، تناولت النظرية الماركسية تاريخ الثورات بالفهم والتحليل والاستنتاج، وقد كان لثورات القرن التأثير الأكبر في تطوير النظرية الماركسية الثورية. إلا أن ما يسعى إليه الماركسيون الثوريون ليس ثورات تستبدل أولئك الذين يقبعون على قمة المنظومة السياسية والاقتصادية بآخرين، بل ثورات تغير المنظومة كاملةً بشكل جذري. 

 

وصحيح أن فصول هذا الكتاب قد كُتبت في بداية الألفية الجديدة، أي منذ أكثر من عشرة أعوام، إلا أن الأفكار التي تقدمها يطرحها قد فتحت الثورة الجماهيري أبواباً رحبة لطرحها. وبعد أن مرت عقود من الركود والموات في الحركة الجماهيرية في مصر والعالم.. عقود استطاعت خلالها الطبقات الحاكمة في العالم أن تثبّت أوضاعها وتوطد أوصال تحالفاتها ضد الشعوب وتلغي مفردات الثورة الجماهيرية من قاموسها. لكن الجماهير عادت لتفرض هذه المفردات أمراً واقعاً على الجميع. أما النظرية الماركسية الثورية فلم تمت حتى طوال عقود الموات تلك، بل ظلت حية يصونها المؤمنون بها والواثقون في قدرة الجماهير على صنع تحررهم الثوري بأيديهم. 

 

يقدم كتاب "الماركسية وعصر الثورة" مزيجاً من الأفكار النظرية والتحليلات وخبرة الثورات في التاريخ، حيث يمكننا القول بأنه يبني نسقاً فكرياً متجانساً ومبسطاً لأفكار لا تنفصل عن بعضها، بل لا يمكن فهم أو تناول إحداها إلا في سياق نظرية متطورة وحية بحياة الجماهير والثورة.. النظرية الماركسية الثورية. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الأول

هل مازالت الماركسية حية؟!

 

في المدرسة نتعلم التاريخ كمجموعة من القصص القديمة حول الرجال العظماء: الملوك، الأباطرة، قادة الجيوش، إلخ. أتذكر جيداً حينما كانوا يخبروننا في المنهج الدراسي أن كليوباترا كانت تستحم باللبن، لكنهم لم يخبروننا أبداً من الذي أنتج ذلك اللبن أو كم من الأطفال المصريين عانوا سوء التغذية بسبب ندرة اللبن. كانوا يخبروننا عن نابليون حينما ذهب لغزو روسيا في 1812، لكن لم يخبرنا أحد كم من الفلاحين والجنود، الروس والفرنسيين الفقراء، قُتلوا في المعارك.

 

 HYPERLINK "http://www.e-socialists.net/node/3804" البيان الشيوعي يوضح –على العكس من تاريخ الطبقات الحاكمة ورجالها- أن العامل الأساسي في صنع التاريخ هو حركة الملايين من الجماهير: "إن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ الصراعات الطبقية: حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع. وبكلمة أخرى، ظالمون ومظلومون في تعارض دائم، خاضوا حرباً متواصلة، تارة معلنة وطوراً مستترة، حرباً كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين".

 

كما أن  HYPERLINK "http://www.e-socialists.net/node/1618" الستالينية والاشتراكية الديمقراطية هم أيضاً يتناولون الأمور من أعلى. الأمر واضح بالنسبة للستالينيين، فكلما كان ستالين يعطس، كان كل عضو بالحزب الشيوعي يشهر منديله ليعطيه إياه (!!)

 

أما الاشتراكية الديمقراطية، فهي تبدو لوهلة وكأنها ديمقراطية حقاً. ولكنها في الحقيقة غارقة في النخبوية، فهي تقوم على فكرة أساسها أن الرجال والنساء العاديين عليهم فقط أن يدلوا بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية مرة كل 4 أو 5 سنوات، وأن يتركوا بعد ذلك كل الأمور لمن انتخبوهم. تعالوا نتأمل الأمر: إذا قام المواطن بالتصويت عشر مرات في حياته، فإنه يقضي مثلاً 30 دقيقة من حياته في المشاركة في عملية الديمقراطية. يوضح آب لينكولن الأمر قائلاً: "لا يمكن للمجتمع أن يكون نصف حر نصف عبد". وهكذا فإن القادة الاشتراكيين الديمقراطيين يفترضوا أن على الجماهير أن تعيش العبودية طيلة حياتها، في مقابل 30 دقيقة فقط يمارسون فيها الديمقراطية.

 

تناقضات الرأسمالية

 

في ظل الرأسمالية، أولئك الذين لا يعملون، يملكون أدوات الإنتاج، وأولئك الذين يعملون لا يملكون شيئاً على الإطلاق، على الرغم من أن العمل في ظل الرأسمالية يتم بشكل اجتماعي؛ حيث تعمل أعداد ضخمة من العمال في أماكنهم (مصانع، مستشفيات، محطات، إلخ). يتم الإنتاج بالمشاركة الاجتماعية، لكن الملكية ليست كذلك؛ حيث تتركز في أيدي أفراد أوشركات رأسمالية كبيرة أو دول.

 

نلاحظ جيداً التنظيم والتخطيط والتنسيق الدقيق في كل وحدة إنتاجية. لكن في نفس الوقت ليس هناك أي درجة من التخطيط أو التنسيق بين الوحدات المختلفة من رأس المال ككل. في فولكس فاجن على سبيل المثال، ينتجون موتور واحد لكل سيارة، وهيكل واحد، وأربعة عجلات (وواحدة أخرى "استبن"). هناك تخطيط جيد بين أقسام الإنتاج المختلفة للسيارة، لكن ليس هناك أي درجة من التنسيق بين فولكس فاجن وجنرال موتورز. وهكذا فإن التخطيط والفوضى هم وجهان لعملة واحدة هي الرأسمالية.

 

من الأفضل هنا أن نضع الرأسمالية في السياق التاريخي، وأن نقارنها بالإقطاع الذي سبقها وبالاشتراكية التي سوف تليها.

 

في ظل الإقطاع، كان هناك إنتاج فردي وملكية فردية. أما في ظل الاشتراكية سوف يكون هناك إنتاج إجتماعي وملكية إجتماعية.

 

في ظل الإقطاع، كان الحديث عن تخطيط الاقتصاد غير معقول سواء على مستوى الوحدة الاقتصادية أوعلى مستوى الاقتصاد ككل. أما في الاشتراكية فإن سيكون على مستوى الوحدات الإنتاجية الصغيرة وعلى مستوى الاقتصاد ككل.

 

ولأن الرأسمالية يجتمع فيها كل من الانتاجية الضخمة بجانب الفوضى في عموم الاقتصاد، دائماً ما نواجه ظاهرة خطيرة وملازمة للرأسمالية حيث الفقر والحرمان في ظل الوفرة. على مدار آلاف السنين، قبل الرأسمالية، كان البشر يعيشون فقر مدقع ويموتون جوعاً لأنه لم يكن يوجد طعام يكفي الجميع. أما الرأسمالية فهي النظام الاقتصادي والاجتماعي الوحيد الذي يموت فيه الناس جوعاً  HYPERLINK "http://www.e-socialists.net/node/5707" لا بسبب ندرة الطعام لكن بسبب وفرته.

 

في الولايات المتحدة الأمريكية يتم صنع سفن خاصة لشحن الحبوب، بحيث تستطيع أن تفتح قاعها لإلقاء الحبوب وإغراقها في المحيط، وذلك للحفاظ على أسعارها من الانخفاض. 

 

الفقر بجانب الثروة يظهرون في أشكالهم القصوى في ظل الرأسمالية كما لم يسبق في التاريخ كله. يُذكر أن أن هناك 58 ملياردير فقط يملكون وحدهم ثروات تعادل دخول نصف البشر على كوكب الأرض، وهؤلاء البشر ليسوا فقط من الفقراء بل أيضاً من أولئك القادرين على العيش.

 

التنافس واستغلال العمال

 

في ظل الإقطاع، يقوم السيد الإقطاعي باستغلال واضطهاد عبيده وخدمه وفلاحيه في سبيل أن يعيش حياة مرفهة. هكذا يشرح ماركس الأمر: "إن حدود إستغلال الإقطاعي لخدمه وعبيده تنحصر بين جدران معدته". لكن ما يدفع فورد لاستغلال العمال ليس الاستهلاك الشخصي، فلو كان الأمر كذلك لكان عبء الرأسماليين أقل. فهناك 250 ألف عامل على مستوى العالم يعملون لدى فورد، وإذا كان كل منهم يؤخذ منه دولار واحد كفائض قيمة سيكون ذلك كافياً لكي يعيش ملاك شركة فورد. لكن ديناميات الاقتصاد أكبر وأعقد بكثير من ديناميات استهلاك أي شخص أومجموعة من الأشخاص؛ إذ أن الدافع الحقيقي للاستغلال ليس الاستهلاك الشخصي للرأسمالي وليس "جدران معدته".

 

للنجاة أثناء المنافسة مع جنرال موتورز وفورد، يجب تجديد وتحديث الميكنة في المصانع، كما يجب استثمار المزيد من رأس المال. والوجه الآخر من فوضى التنافس بين الرأسماليين هو الظروف القاسية والطغيان الذي يعيشه العمال في كل وحدة رأسمالية. 

 

طبيعة الدولة الرأسمالية 

 

في كل مكان يخبروننا أن الدولة فوق المجتمع وأن الدولة تمثل الأمة. لكن البيان الشيوعي –مرة أخرى على عكس كل ذلك- يرى أن الدولة هي مجرد سلاح في يد الطبقة الحاكمة: "الدولة ليست إلا جهاز لإدارة شئون ومصالح الطبقة البرجوازية ككل". 

 

وفي موضع آخر كتب ماركس أيضاً أن الدولة ليست إلا "رجال مسلحين دائمين مزودين بكل ما يلزمهم لآداء مهمتهم" –الجيش، الشرطة، المحاكم والسجون، إلخ. لقد أطلق ماركس على مهام الجيش "صناعة المذابح"، ليس هذا فحسب، بل أن تلك الصناعة تعتمد على الصناعة الحقيقية. بكلمات أخرى، إن ما يحدد قوى التدمير هي قوى الإنتاج نفسها. 

 

هكذا يسير الأمر على مر تاريخ المجتمعات الطبقية. في العصور الوسطى مثلاً، عندما كان الفلاح يمتلك حصان ومحراث خشبي، كان الفارس يمتلك حصان أقوى وسيف حديدي. وفي الحرب العالمية الأولى، عندما كان يتم إرسال ملايين من الناس إلى الجيش من أجل القتال، كان يتم إرسال ملايين آخرين للمصانع الحربية لإنتاج البنادق وطلقات الرصاص، إلخ. واليوم، عندما يضغط إصبع على الزر لإرسال ملايين الدولارات عبر حسابات البنوك، تستطيع ضغطة زر أيضاً إبادة 60 ألف إنسان كما حدث في هيروشيما. إن صناعة المذابح والصناعة الإنتاجية تتوائمان كما يتوائم القفاز في اليد، حتى الهيكل الاجتماعي للجيش (صانع المذابح) تتوافق تماماً مع هيكل المجتمع ذاته؛ فإذا كان الجيش لديه الجنرالات والضباط الكبار نزولاً إلى الجنود، فالأمر مماثل في المصنع؛ حيث يوجد المدير ورئيس العمال ومن ثم العمال أنفسهم. إنه نظام معين في التراتب لابد أن يتوازى مع مثيله. 

 

الثورة البروليتارية 

 

من أجل تحطيم الرأسمالية، يجب على الطبقة العاملة أن تستولي على السلطة السياسية. لكن، كما جادل ماركس من قبل، لا يمكن للعمال أن يستولوا على آلة الدولة ويديرونها كما هي؛ ذلك لأن الدولة الحالية لا تعكس سوى الهيكل الطبقي للمجتمع الرأسمالي. لذلك فإن على العمال أن يحطموا هيكل الدولة وأن يستبدلونه بدولة أخرى حيث لا يوجد جيش نظامي ولا بيروقراطية تتحكم في مقدرات الأمور، وحيث يتم انتخاب كافة المسئولين ويصبح بالإمكان عزلهم بسهولة، وحيث لا يمكن لأي نائب أو ممثل للعمال أن يتقاضى أجراً أكثر من متوسط أجر العامل العادي. توصل ماركس لهذه الاستنتاجات بعد ما شهده في  HYPERLINK "http://www.e-socialists.net/node/2975" كوميونة باريس 1871 التي أنجز فيها العمال كل ذلك. وحتى من قبل الكوميونة، كتب ماركس في البيان الشيوعي: "حتى الآن، كانت كل الحركات في التاريخ إما حركات الأقلية أو حركات لمصلحة الأقليات. أما الحركة البروليتارية فهي الحركة المستقلة والواعية والقائمة بذاتها للأغلبية الساحقة في سبيل الأغلبية الساحقة".

 

لقد أوضح ماركس لماذا نحتاج ثورة: الطبقة الحاكمة لن تتخلى عن السلطة والثروة إلا إذا أُجبِرَت على ذلك بالقوة، والطبقة العاملة لن تتخلص من "وحل القرون السابقة" بدون ثورة حقيقية.

 

لكن الرأسمالية لها تأثيران متناقضان على العمال، فهي من ناحية، توحد مصالح العمال، ومن ناحية أخرى تخلق الانقسامات بينهم. التنافس على الوظائف، على السكن المناسب أوعلى الترقيات، إلخ، كل ذلك يبعثر صفوف العمال. بينما النضال ضد رؤساء وملاك العمل هو ما يوحدهم، وتصل هذه الوحدة إلى أقصاها في الإضرابات العامة للجماهير العمالية. لكن الثورة لا يمكن أن تحدث بسهولة بين ليلة وضحاها؛ فالثورة عملية طويلة من الإضرابات والمظاهرات والنضالات المختلفة التي تتوج في النهاية باستيلاء العمال على السلطة. 

 

إن السمة الأكثر أهمية للثورة تتجلى في التغيرات الفكرية والنفسية في صفوف الطبقة العاملة. الجماهير في روسيا تقدم لنا مثالاً هاماً للتدليل على ذلك، حيث كان اليهود، في ظل سيطرة القيصرية على روسيا، مضطهدين بكل قسوة وعنف. كان القيصر يدبر لهم حملات تطهير منظمة، ولم يكن لهم الحق في العيش في أي من العاصمتين (موسكو وبتروجراد) بدون تصريحات يصعب الحصول عليها، كما كان يتم التمييز ضدهم في السكن والتعليم، إلخ. وبشكل عام كان اليهود مكروهين من باقي سكان روسيا القيصرية. 

 

تعالوا نتأمل ماذا حدث عندما قامت الثورة الروسية في 1917. لقد تحولت أفكار الروس بشكل جذري تجاه اليهود وذابت الانقسامات بين اليهود وبين بقية الروس، حتى أنه تم انتخاب ليون تروسكي في منصب رئيس سوفييت بتروجراد، وبعد ذلك كقائد للجيش الأحمر. وكامينيف كرئيس لسوفييت موسكو، كما تم انتخاب سفيردلوف رئيساً للجمهورية السوفيتية. وكل هؤلاء الثوريين منحدرين من أصول يهودية.

 

سنضرب مثالاً آخر، من الثورة الروسية، على التحولات الفكرية لدى الجماهير. خلال شهر أكتوبر الذي انتصرت فيه الثورة، كان الثوري الروسي لوناتشارسكي يعقد لقاءات جماهيرية يحضرها 30 أو 40 ألف شخص لمدة ساعتين أو ثلاثة ساعات، للحديث حول مواضيع مثل الأدب عند وليام شكسبير، أو الدراما الإغريقية، إلخ. 

 

لقد لخص لينين الشروط الواجب توافرها من أجل قيام وانتصار ثورة عمالية يمكنها أن تصنع مثل هذه التحولات في البشر: 

 

الأزمة العميقة التي تشمل المجتمع بأسره.

حالة السخط لدى الطبقة العاملة التي لا ترضى بالعيش بهذه الطريقة.

حالة من فقدان الثقة لدى الطبقة الحاكمة في قدرتها على الاستمرار في السيطرة على المجتمع، ومن ثم الانقسام والصراع في صفوفها حول طريق الخروج من الأزمة.

وأخيراً وجود حزب ثوري يستطيع قيادة الطبقة العاملة إلى النصر.

 

الاشتراكية أو الفاشية

 

لقد أشرنا من قبل إلى مقولة ماركس في البيان الشيوعي حيث كان يشرح أن النضال الطبقي قد ينتهي "إما بتحول ثوري للمجتمع وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين". لقد توصل ماركس لهذا الاستنتاج على أساس خبرة سقوط المجتمع الروماني العبودي. لقد هُزم سبارتاكوس، ولم يستطع العبيد تنظيم أنفسهم للإطاحة بطبقة مالكي العبيد. إلا أن المجتمع العبودي قد سقط أيضاً. اختفى العبيد وحل محلهم الأقنان، وكذلك مالكي العبيد الذين حل السادة الإقطاعيين محلهم. 

 

استطاع إنجلز أن يضع صياغة أخرى لنفس الفكرة حين تحدث عن احتمالات مستقبل البشرية "إما الاشتراكية أو البربرية". واستطاعت روزا لكسمبرج تطوير الفكرة إلى أبعد من ذلك، في حين أنها لم ترى بربرية وهمجية في العالم بالقدر الذي نراه اليوم. إنجلز توفى في 1895، أما روزا فقد أغتيلت في يناير 1919، ولم يشهد أي منهما القتل في غرف الغاز، ولا الإبادة التي تمت في هيروشيما وناجازاكي، ولم يسمعوا عن مجاعات أفريقيا. لم يشهدوا أي من تلك المظاهر البشعة للبربرية. 

 

عندما كان النازيون على أعتاب السلطة في ألمانيا، كان قادة الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني يظنون أن الوضع الراهن أفضل بكثير من النازيين وأن عليهم أن يحافظوا على هذا الوضع لكي يواجهوا الصعود النازي. وهكذا قاموا بالتصويت في صالح السياسي المحافظ فيدل مارشال هايدنبرج ليصبح رئيساً للبلاد، لمجرد أنه ليس نازياً. لكن هايدنبرج استدعى هتلر، في 30 يناير 1933، ليصبح رئيساً للوزراء. 

 

الفاشية ببساطة هي حركة تعبر عن اليأس من تغيير المجتمع، بينما الاشتراكية تعبر عن الأمل في ذلك. ولذلك فإن النضال ضد الفاشية لا يستلزم النضال ضد الفاشيين وحسب، بل أيضاً النضال ضد كافة الظروف التي تقود المجتمع إلى اليأس من التغيير. من البديهي أن تطهر منزلك من الفئران، لكن يجب أيضاً أن تطهر البالوعات التي تتكاثر فيها تلك الفئران. يجب علينا النضال ضد الفاشيين، لكن يجب أيضاً النضال ضد الرأسمالية نفسها؛ فهي التي تصنع كل تلك الظروف التي تغذي الفاشية، حيث البطالة والفقر والحرمان من الخدمات والأمان الاجتماعي، إلخ. 

 

أكثر حيوية بما لا يُقاس

 

تعاني الرأسمالية اليوم تناقضات أعمق بكثير من تلك التي عاشتها حين مات ماركس في 1883. تلك التناقضات تتجلى في الأزمات الدورية العميقة، وفي الحروب التي تجتاح العالم، إلخ. وعلى الجانب الآخر أصبحت الطبقة العاملة أقوى بكثير مما كانت عليه في 1883. ومن الطريف أن نذكر أن حجم الطبقة العاملة في كوريا الجنوبية وحدها أكبر من حجمها في العالم كله حينما مات ماركس، مع العلم بأن اقتصاد كوريا الجنوبية يحتل المرتبة رقم 11 بين دول العالم. أضف إلى ذلك العمال في أمريكا وروسيا واليابان وألمانيا وبريطانيا، إلخ. وهذا لا يعني سوى أن الإمكانية والفرصة أمام تحقق الاشتراكية أعلى بكثير مما سبق. 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

لماذا نحتاج الحزب الثوري؟!

 

الطبقة العاملة هي طبقة ذات نزوع ثوري وكما يراها ماركس هي الوحيدة التي تمتلك القدرة على القيام بالثورة غير أن العمال لا يؤمنون بهذه القدرة لديهم بل ولا يحسنون الظن بطبقتهم ككل بوصفها طبقة ثورية.  

لو كان العمال مدركين لهذه القوة الكامنة داخلهم لكان الأمر في غاية السهولة فيما يتعلق بدور الاشتراكيين تجاههم، غير أن الحقيقة القائلة بان الأفكار السائدة في أي مجتمع هي الأفكار التي تبثها الطبقة الحاكمة تؤدى بان يسجن العمال كل ما يختلف من أفكار داخل رؤوسهم.

البعض (هم عادة أقلية صغيرة نسبيا) يقدس كل القيم الرأسمالية فتراهم يدافعون بشدة عن تقسيم البشر بين أناس ولدوا ليحكموا بينما آخرون ولدوا ليشغلوا منصب المحكومين، وهكذا فهم مؤمنون بكل أمراض المجتمع الرأسمالي من تصنيف الناس على أساس الجنس أو العرق أو القومية.

والبعض الآخر وهم أقلية لا تزيد كثيرا عن سابقتها يرفضون الرؤية السائدة للعالم تلك التي تكرسها وسائل الإعلام ونظام التعليم وكل المؤسسات الأخرى في المجتمع الرأسمالي، وهم بدلا من ذلك يحاولون تطوير تصور مختلف يقاوم هذه الأفكار ويقدم منظورا بديلا يتبدى من خلال العالم بشكل مغاير.

أما الأغلبية العظمى من العمال فهم معظم الأحيان لا يتبعون أيا من هذه الرؤى فتراهم  في الوقت الذي يرفضون فيه بعضا من أفكار الطبقة الحاكمة فإنهم يسلمون بالبعض الآخر، انهم ينحازون لشكل المجتمع كما هو ولكنهم في الوقت نفسه يرغبون التخفيف من بشاعته.

هذا الخليط من الأفكار يعطى انطباعاً بأنه بالرغم من أن الطبقة العاملة هي طبقة ذات توجهات ثورية محتملة فإن هناك فجوة كبيرة بين ما هو محتمل وما هو قائم بالفعل.

موقع العمال في المجتمع الرأسمالي (كطبقة مستغلة لا تملك إلا القليل من أمر معيشتها وتشعر بالاغتراب عن ما تنتجه) يقودهم إلى الإيمان بأنه لا يمكنهم تغيير ظروفهم إلا في أضيق الحدود، وفى الوقت الذي يؤهلهم فيه موقعهم لأن يكونوا منظمين بصورة جماعية من خلال النقابات العمالية والأحزاب السياسية للطبقة العاملة فإن قوة التنظيم الجماعي والعمل الجماعي ليست واضحة بالنسبة لهم.

والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة الآن هو كيف يمكن للاشتراكيين التغلب على ذلك؟ كيف يمكن للعمال التحول من السلبية والمشاركة بفعالية في تحرير أنفسهم؟ كيف يمكن للعمال أن يدركوا حقيقة انهم قادرين على التغيير كطبقة؟

إن التاريخ قد بين في أكثر من مناسبة أن العمال عند ولادة الثورة يتحركون بشكل عفوي ويتشكل الوعي لديهم كطبقة، وأشارت دروس التاريخ أيضا إلى أن العمال في حاجة دائمة إلى نظرية ثورية وإلى منظمة تتولى مهمة تخطيط الطريق لهم منذ البدايات الأولى للثورة حتى تصبح لديهم القدرة على تأسيس دولتهم العمالية الخالية من الاستغلال والقائمة على الإنتاج من اجل إشباع الحاجات، ومن هنا فمهمة الحزب الثوري تتمثل في إمداد العمال بكل من النظرية والتنظيم.

أنواع الأحزاب المختلفة 

 

الحزب الثوري يختلف تماما عن غيره من الأحزاب العمالية الأخرى في نواحي كثيرة، أهمها بالطبع هو أن الحزب العمالي الثوري يهدف إلى إسقاط الرأسمالية بالإضافة إلى انه مدرك للاختلاف في مستوى الوعي الطبقي لدى العمال هو ما يعتبر جوهر العملية التنظيمية له.

ويعد من الأمور الحاسمة أن حزب العمال الثوري مبنى بالأساس على الأقلية النشطة داخل الطبقة العاملة والتي ترغب في النضال ضد النظام، حتمية هذه الفكرة تكمن في أن أقلية فقط من العمال ينغمسون بشكل مباشر في الصراع، هذه الأقلية يتراوح عددها بين مئات الآلاف أو الملايين في إضراب عام أو أعداد ضئيلة في إضراب بمصنع ولكن بدون مجموعة ثورية تنظم حركة هؤلاء العمال المتعطشون للكفاح كل جهودهم ستضيع هباء بلا طائل.

كثير من الناس "خاصة هؤلاء المنتمين للأحزاب التي تسمى نفسها عمالية مثل حزب العمال البريطاني" يجدون أن الحزب الثوري هو ظاهرة غير مفهومة ومن ثم فانهم يتناقشون حول لماذا لا يكون الحزب الثوري جزءا من الحزب الكبير الذي يضم كل العمال؟!!.

إن نظرة متأنية لحزب العمال البريطاني على سبيل المثال تكشف خطأ مثل هذا الطرح، فهذا الحزب يعد ممثلا لكل العمال على اختلاف أفكارهم ونظرا لوجود التفاوت في الطبقة العاملة في ظل الرأسمالية فان تمثيل الطبقة بشكل عام يعنى تمثيل هؤلاء المقتنعين بأفكار الطبقة الحاكمة تماما كهؤلاء الرافضين لأفكارها.

هذا ما يجعل حزب العمال دائما (كمعبد فسيح) يضم بين أروقته العنصريين، وأيضاً يضم هؤلاء الذين يرفعون شعارات ضد العنصرية. ورغم أن ذلك قد يجعل منه منظمة ضخمة إلا أنها تكون زيادة كمية غير قادرة على النضال من أجل مصالح أعضاء الحزب، نظراً لأنها لا غير موحدة على فكرة واحدة، بل أفكار متناقضة في أحيان كثيرة.

بشكل عملي يعنى ذلك أيضا أن حزب من هذا النوع لا يمثل في الواقع الطبقة العاملة ككل على الإطلاق بل هو يتواطأ لصالح الصفوف الخلفية للعمال ولا يعمل من اجل كل أو حتى معظم صراعات الطبقة العاملة فهذه الصراعات عادة ما تبدأ خارج حزب العمال وهى في أحيان قليلة ما يتم تأييدها بشكل فردى من قبل أعضاء الحزب الذين لا يلقون سوى التأييد السلبي من الحزب نفسه.

على النقيض من ذلك فان الحزب الثوري الحقيقي دائما ما يطالب أعضائه بالعمل على تشجيع وتوسيع مستوى الصراع الطبقي بشكل إيجابي الأمر الذي يتطلب وجود نظرية تستخلص الخبرات النضالية السابقة للطبقة لكي تكون بمثابة المرشد للعمل المستقبلي.

مثل هذا الحزب يجب أن تمتد جذوره داخل الطبقة العاملة بوصفه حزب طليعي بمعنى انه يدفع بأفضل الكوادر وأفضل الخبرات معا داخل الطبقة.

على الثوريين أن يناضلوا من اجل أفكارهم من خلال نشاطهم، لذا فعليهم أن يقاوموا النظام القائم عن طريق الإضرابات والاحتجاجات والمساجلات من يوم لآخر، ذلك لأن الحزب الثوري هو منظمة مقاتلين قادرين على العمل معا بهدف الوصول لأقصى تأثير سواء في أماكن عملهم أو في أي مكان آخر. بالإضافة إلى ذلك فالحزب الثوري عليه أن يكون بمثابة "ذاكرة الطبقة العاملة" أي المكان الذي يناقش فيه تاريخ الحركة العمالية وتُعلم فيه الدروس النضالية. 

ما هي الخبرة النضالية ؟

 

  نهض العمال في كل عقد من عقود هذا القرن لتحدى النظام ككل. في الأعوام ما بين 1917 و1923 حاول ملايين العمال في روسيا والمجر وإيطاليا امتلاك زمام معيشتهم عن طريق التحكم في وسائل الإنتاج في المجتمع، لقد نظموا المجالس العمالية وسيطروا على مصانعهم واسقطوا النظام القديم، وفى أواخر العشرينات ثار العمال الصينيين ضد حكامهم، واشتعلت الحرب الأهلية في أسبانيا 1936- 1939 عندما قام العمال وفقراء الريف بالتصدي لمحاولة الانقلاب اليميني وقرروا السيطرة على المجتمع وتسييره لصالحهم.

بعد الحرب العالمية الثانية حوّل العمال في إيطاليا واليونان القتال ضد الاحتلال النازي إلى قتال من اجل العدل والمساواة، والعقود التي تلت تلك الفترة مرت بها العديد من اللحظات الثورية، فلقد شهدنا نضالات من أول حركات التحرر الوطني ضد المستعمر السابق كما حدث في فيتنام حتى الكفاح ضد الستالينية في المجر، وأيضاً نضالات باريس في مايو 1968، والثورة البرتغالية 75- 1976، ومنذ وقت ليس ببعيد شهدنا خبرة سلطة العمال في القرى على اختلافها كما حدث في بولندا وإيران، طوال هذه الفترة مرة واحدة فقط نجحت ثورة العمال في تولى السلطة في ثورة أكتوبر 1917 في روسيا. 

هذا التباين الحاد في النتائج لم يعتمد على ظروف تاريخية أو قومية خاصة، على العكس من ذلك فقد نبع من قدرة الحزب الروسي الثوري (حزب لينين البلشفي) على قيادة الطبقة العاملة على طريق تولى السلطة. في بداية 1917 كان الحزب البلشفي حزب أقلية ضئيلة داخل الطبقة العاملة أما بين السكان ككل (الذي كان أغلبهم من الفلاحين) فقد كان أقلية أصغر، وعندما نهض عمال بتروجراد في ثورة فبراير فاجئوا البلاشفة تماما، الثورة في البداية لم يكن هدفها حصول العمال على السلطة بل كانت موجهة لمطالب اكثر محدودية مثل القضاء على  الأوتوقراطية القيصرية وإقامة ديمقراطية حقيقية ونهاية الحرب الدامية في أوروبا.

بعد سقوط القيصرية  كانت الحكومة الجديدة ضعيفة ومذبذبة والمجتمع كله يعانى من أزمة عميقة وسرعان ما ظهرت أشكال الحكم الجديدة كالسوفييتات أو مجالس العمال. في البداية كان البلاشفة معزولين داخل السوفييتات ولكنهم استطاعوا في وقت قصير كسب مساندة كبيرة لأفكارهم ولنشاطهم وبدأت الأغلبية العظمى من العمال تنجذب لشعاراتهم، فقد فهم العمال أن الطريقة الوحيدة للتقدم هي تحطيم آلة الدولة القديمة (التي دعمت الجيش ودافعت عن نظام الملكية الخاصة) وتأسيس دولة جديدة يكون أساسها سلطة العمال.

فهم البلاشفة الواضح للموقف وجذورهم الممتدة داخل الطبقة العاملة كان نتيجة لشكل حزبهم وطريقة بنائه. لقد كان حزبا مبنيا على عنصرين هامين هما الفاعلية والأفكار، نجاحهم كان ثمرة قدرتهم على اختبار الموقف والنقاش حوله والوصول إلى نتيجة موحدة كانت هي التي يتم وضعها موضع التنفيذ. من هنا نبعت قدرتهم على النقاش بين اكثر العمال المسيسين من اجل إسقاط آلة الدولة القديمة وإنشاء أول دولة عمالية. جانب آخر من نجاح الحزب البلشفي كان أساسه بنائه التنظيمي، ذلك البناء الذي ناسب وجود السوفييتات والحاجة إلى تحطيم الدولة القديمة.

هذه النقطة الجوهرية - تحطيم آلة الدولة القديمة- هي ما ميز الحزب البلشفي، فالأحزاب الاشتراكية التي سبقته كان هدفها مجرد التغلب على المؤسسات القائمة دون تغيير علاقات السلطة الجوهرية في الرأسمالية.

وبصرف النظر عن روسيا 1917 ففي كل الأحداث الثورية التي حدثت في العالم يبدأ الثوريين كأقلية ضئيلة ولكن مع استمرارها ومع تعمق أزمة المجتمع فان أفكارهم تحدث الصدى المطلوب لدى اكبر عدد ممكن من الناس، وتظهر بشكل حاد تساؤلات حول إصلاح النظام القائم أو إسقاطه. الكثير من العمال متعطشون للثورة ولكن غياب البديل يدفعهم لاعتبار قادتهم القدامى وسيلة لتحقيق مطالبهم، في مثل هذا الموقف فان وجود حزب ثوري متماسك قبل حلول الطوفان هو أمر في غاية الأهمية، مثل هذا الحزب يجب أن يشتمل على منظومة من الأفكار ويضم الآلاف (إن لم يكن اكثر) من الأعضاء والمؤيدين الذين قضوا أعواما في النقاش والمساجلات حول الاستراتيجية والتكتيكات في الوقت نفسه الذي يقومون فيه بالاشتباك في النشاطات اليومية من خلال آلاف القضايا المختلفة.

لا يعنى ذلك بأي حال أن هذا الحزب معصوم من الأخطاء خلال مشوار الثورة بل يعنى انه سيكون على استعداد تام للتعامل مع تغيرات وتحولات المواقف بصورة افضل من أن يتم ذلك فجأة في أثناء الصراع.

هذا ما يجعل تأسيس حزب ثوري ذو مبادئ أمرا هاما اليوم، وعلى الثوريين أن يستلهموا معظم نظرية حزبهم من خبرة لينين والبلاشفة، فالأعوام التي أنفقت لبناء الحزب البلشفي حتى في أحلك الظروف لم تضيع هباء، والسبب الرئيسي لذلك كان اختلاف مبادئ حزب لينين عن كل المبادئ التنظيمية السائدة في عصره، لقد طالب أعضائه بمستوى من الالتزام والفاعلية وكان ما سمح لقراراته أن تكون بهذه الفاعلية هو اعتماد الحزب الأساسي على فكرة المركزية الديموقراطية.

ما هي المركزية الديمقراطية ؟

 

رغم أن مصطلح "المركزية الديموقراطية" يبدو للوهلة الأولى متناقضاً إلا أنه ليس كذلك في الواقع. فالمركزية هي النتاج المنطقي للحوار الديموقراطي الحقيقي؛ فالقضايا تدار حولها المناقشات بل والمعارك أحياناً. وحين يُحسم الأمر فإن كل فرد -بصرف النظر عن موقفه في عملية الحوار- عليه أن يلتزم بالقرار ويعمل بموجبه.

هذا ما يعد متناقضاً مع الديموقراطية المزعومة في المجتمع الرأسمالي، فنحن نملك حق التصويت في الانتخابات المحلية والقومية ولكن علاقة ما نريد من مطالب بذلك الشخص الذي منحناه أصواتنا علاقة لا تمت بصلة لما يحدث على أرض الواقع فمعظم القرارات يتم وضعها بواسطة أناس لا نملك عليهم أي نوع من السيطرة، وبالتالي فنحن لا يد لنا في تلك القرارات التي تسير حياتنا، نحن لا نمتلك حق التصويت حول ما إذا كان يتوجب إغلاق مصنع أو بناء محطة للطاقة النووية أو ما إذا كان يجب وقف خط  أتوبيس مثلاً، ذلك لان الأقلية (أصحاب المال والجاه والنفوذ) وليس الأغلبية هي التي تقرر ما الذي يجب عمله في معظم الأشياء الهامة، ولان الديموقراطية تصبح غير ذات قيمة بدون اتخاذ قرارات ديموقراطية لذا فانه في ظل الرأسمالية لا وجود للديموقراطية الحقيقية.

الأحزاب أمثال حزب العمال البريطاني ربما تدار لديهم بعض الحوارات الفردية والسجالات ولكن نادراً ما يلتزم أعضاء الحزب بنتائجها إذ ليس هناك صلة بين ما يتم قوله أو فعله وبين هؤلاء الذين يمضون في طريقهم من خلال مواقعهم لصنع القرارات هذا ناتج من حقيقية أن قادة الحزب والأغلبية من أعضاء البرلمان يجهلون تماما قرارات مؤتمر حزب العمال من دون أن يوجه لهم أي لوم.

إن التكوين الحزبي لمنظمة ما ينبع من حقيقة الدور الذي تلعبه في المجتمع، أحزاب مثل حزب العمال البريطاني ترى أن دورها "على أحسن تقدير" هي تسيير أمور المجتمع القائم من خلال البرلمان والمجالس المحلية وما إلى ذلك، لهذا فان تكوينهم الحزبي يتناسب تماما مع ما يقومون به من مهام على الأقل كما يرونها هم.

أما الحزب الثوري فله دور مختلف تهيئه له المركزية الديموقراطية فهو مبني على مهمتين أساسيتين، أولهما هو أن الطبقة العاملة لا يمكنها تولى السلطة وتسييرها لأجل صالحها بسهولة، والثانية هي حقيقة أن الأفكار السائدة في أي مجتمع هي أفكار الطبقة الحاكمة، يعنى هذا أن الحزب يجب أن يُنظم للقتال من أجل سلطة العمال من أسفل وذلك في سبيل بناء المجالس العمالية وإسقاط الدولة لذا فإن على الأقلية المنظمة في الطبقة العاملة عبء النضال ضد أفكار الطبقة الحاكمة ولأن وجود حزب ثوري مرتبط بفكرة التغلب على التفاوت داخل الطبقة العاملة فإن عليه تعميم خبرة هؤلاء الذين يفهمون طبيعة المجتمع الرأسمالي ووسائل القضاء عليه بشكل أفضل إذ لا يمكن للحزب الثوري أن يكون مجرد انعكاس لمستوى الفهم السائد وسط العمال في وقت بعينه بل عليه أن يكافح بشكل واعي ضد هذه الأفكار نظريا وعمليا.

ومن أجل التغلب على التفاوت في وعى الطبقة العاملة على الحزب أن يتبع طريقين اثنين، أولهما أن يكون "ذاكرة الطبقة" فكل تاريخ نضال العمال في الغالب غير ظاهر لنا حتى في الصحف ومراكز الأبحاث والمدارس والجامعات نحن لا نتعلم الكثير عن الإضرابات وانتصارات العمال، حتى عندما نعلم عن هذه الإضرابات فإن القصص تصل إلينا بشكل مشوش وبالتبعية فإننا نجهل كل شيء تقريبا عن كفاح العمال في البلدان الأخرى، لذا فإن من أهم المهام الملحة للحزب أن يتأكد من أن تاريخ الطبقة العاملة قد تغلغل في وعى العمال و أن دروسه قد تم استيعابها على نحو تام.

الطريق الثاني الذي يجب على الحزب الثوري أن يسلكه هو أن يتعلم من الطبقة العاملة. هذه المعادلة الصعبة تحدث نوعا من الحيرة إذ إنه لو كان الحزب هو حزب الطبقة العاملة وذاكرة الطبقة أليس على العمال أن يتعلموا منه وليس العكس؟! المشكلة تحدث عندما يتم اعتبار الطبقة العاملة مجموعة من المتلقين السلبيين لتعاليم الحزب حيث أن هذا يرسخ مبدأ النخبوية ويترك الفرصة لتساؤل مفاده من الذي يعلم المعلمون إذن؟

إن حقيقة العلاقة بين الحزب والطبقة هي علاقة مرنة تعتمد على تعلم الحزب من الخبرات الحية للطبقة، وهذا يستلزم أن يبذل الحزب كل جهد لخلق صلات مع العمال والحفاظ عليها، وهذا لا يعد صحيحا فقط في الأوقات التي يشارك فيها العمال في الصراع عن طريق الإضرابات والاستيلاء على المصانع وخلافه بل هو بنفس الدرجة من الأهمية عندما يكون مستوى كفاح الطبقة منخفضا (حالات الجزر).

الحزب الثوري الحقيقي هو الذي يحافظ دائما على صلاته بالعمال لهذا فإن قدرا كبيرا من الأهمية يلقى على إنتاج المجلات والنشرات والتقارير والكتيبات عن القضايا المختلفة داخل المصانع و توزيعها، وإصدار كتيبات للعمال عن قضايا أخرى كالحركة النقابية أو أزمة السكن. بهذه الطريقة فقط يمكن للحزب أن يصبح ذاكرة للطبقة العاملة و في الوقت نفسه يتعلم من نضال العمال. 

القيادة 

 

أحد الملامح الرئيسية لنظرية لينين حول الحزب هو مفهوم القيادة هذا المفهوم الذي يحدث أيضا نوعا من الحيرة لدى هؤلاء المعترضون على اللينينية إذ يقولون أن القيادة هي نوع من الكهنوتية والنخبوية. مثل هذه الأفكار خاطئة تماما، فالقيادة ضرورية في الحزب الثوري تحديدا بسبب التفاوت في الطبقة العاملة ولان الأفكار السائدة في مجتمعنا هي تلك الأفكار الخاصة بالطبقة الحاكمة. إن كل عضو من أعضاء الحزب يجب أن يعتبر نفسه أو نفسها كقائد سواء في موقع العمل أو في مكان السكن، القيادة يجب أن توجد بكل المستويات محليا وقوميا وأن تنبع بشكل طبيعي من المركزية الديموقراطية، يعنى هذا أن الذين يبنون الحزب هم أنفسهم الذين يقاتلون من أجل أفكارهم وتكتيكاتهم في الحزب ومع الطبقة العاملة، لهذا فان الحزب الثوري لا يضم قيادة محددة هي بالضرورة التي تعرف اكثر من الجميع.

المفهوم اللينيني للقيادة مختلف تماماً عن الرؤى النخبوية المعتادة للقيادة في ظل الرأسمالية، فالقيادة تعنى معرفة كيف نواجه أفكار الطبقة الحاكمة التي يقبلها معظم العمال في أغلب الأحيان، وتعنى أيضاً معرفة كيف يمكننا العمل لتحدى سلطة الطبقة الحاكمة سواء عن طريق إضراب أو تمرد.  أعضاء الحزب الثوري يجب أن يكونوا متأهبين تماماً أكثر من غيرهم للقيادة بهذه الطريقة، لا يعنى ذلك أنهم دائماً ما يفعلون هذا أو أنهم دائماً على صواب، فأحياناً في أوقات ارتفاع درجة النضال الطبقي "المد" يمكن لهؤلاء الثوريين الذين قضوا الأعوام الطوال في النقاش حول السياسات الاشتراكية يمكن أن يكونوا أبطأ من أن يدكوا حالة أو درجة الكفاح داخل الطبقة العاملة. 

كان هذا صحيحا حتى بالنسبة لحزب البلاشفة عام 1917. يصف تروتسكي في كتابه (دروس ثورة أكتوبر) كم أن أكثر القادة البلاشفة خبرة كانوا في حالة من البطيء والحذر عند قيام الثورة ويشرح السبب في ذلك، قائلاً: "كل حزب بما في ذلك اكثر الأحزاب ثورية يجب أن ينتج وسائل محافظة تنظيمية وإلا فإنه سوف يفقد استقراره الضروري ولكن لهذه المسألة درجتها، ففي الحزب الثوري الضرورة الحيوية للمحافظة يجب أن ترتبط بتحرر تام من الروتين بمبادرة في التوجه وجرأة في الفعل". ويمضى تروتسكي قائلاً: "كلاً من المحافظة والمبادرة الثورية تكون موجودة بشكل أكثر كثافة  لدى الكوادر القيادية في الحزب". 

ولكن بصفة عامة فإن الثوريين من المأمول تواجدهم في صدارة كل صراع، يقاتلون من اجل الوصول بالصراع إلى نهاية ناجحة، تلك هي الطريقة الوحيدة التي بها يمكن للأفكار الثورية أن تختبر بشكل عملي، فالقيادة داخل الطبقة تسير يدا بيد مع القيادة في الحزب، ويطرح البعض أحيانا أنه ليس هناك وقاية ضد القيادة السيئة في الحزب اللينيني الأمر الذي بإمكانه أن يقود البعض لتخليد القيادة المخطئة سياسيا بحجة كونها (القيادة)، ويدعمون رأيهم بما حدث في روسيا الستالينية، غير أن الحزب الشيوعي الذي حكم بقيادة ستالين كان النقيض التام لكل ما كان البلاشفة ولينين يناضلون من أجله فقد ألغى ستالين الحوار الديموقراطي ومجالس العمال الحقيقية والحرية لم يكن هذا نتاج حتمي لفكرة القيادة بل هو نتاج لذلك الاتجاه الذي أتبعه ستالين في حكمه لروسيا.

القيادة الحقيقية في المنظمة الثورية تعنى أن القرارات المتخذة يمكنها أن تكون أحيانا خاطئة، في خطبة لينين الأخيرة للأممية قبل وفاته قال "لقد ارتكبنا كومة من الحماقات".

القادة الحقيقيون ليسوا منزهون عن الخطأ ولكنهم قادرون على إدراك الخطأ وقبوله والتعلم منه، وهذا لا يمكنه أن يحدث إلا بالتعلم الدائم من الطبقة العاملة وباختبار نظرياتها وأفعالها بصورة عملية، القدرة على ذلك تمنح الثوريين الحق في القيادة داخل الحزب والطبقة، لهذا فإنه ليس هناك أي نوع من الكهنوتية في الحزب الثوري.

هناك أناس من خلال المعرفة والخبرة والقدرة على التوجيه يرون في أنفسهم القدرة على القيادة إلا أنهم لا يعرفون كل شئ، على العكس من ذلك أنهم يقترفون العديد من الأخطاء لأنهم يواجهون بشكل دائما موقف ومشاكل جديدة.

كلما امتدت جذور الحزب داخل الطبقة العاملة كلما ارتبط أكثر بالصراع الحقيقي وكلما زادت نسبة حدوث الأخطاء، ولكن نسبة التعلم من الأخطاء ومعرفة احتمالات تكرار الخطأ في المستقبل تزيد هي الأخرى، أنه من السهل جدا أن تبقى ذو مبادئ ثابتة عندما لا تفعل شئ، الأصعب  أن تثبت على هذه المبادئ حين تنغرس يوما بعد يوم في الصراعات الطبقية.

لهذا فالاختبار الدائم وإعادة التقييم والحوار حول التكتيكات يعد أمرا جوهرياً لتطوير أي حزب ثوري، وهذا ما تؤكده خبرة النشاط والاشتباك مع مختلف قضايا الطبقة العاملة، فهذه الخبرة أثبتت أن عملية الحوار الديموقراطي المركزي هي أمر جوهري للانغراس في الصراع الطبقي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Partager cet article
Repost0

commentaires