الدوحة: مبادرة البرجوازية السورية
يشهد الأسبوع القادم لقاءات ممثلي أطياف المعارضة السورية في الدوحة في اطار توافق امريكي واوروبي وخليجي غير مسبوق على مبادرة لتوحيد الصفوف وتشكيل بنيان يستطيع أن يلبي متطلبات هذه الدول في المحافظة على تماسك الجيش النظامي والقسم الأكبر من المؤسسات الأمنية وبنفس الوقت تحقيق صيغة من حلول متدرجة "لاسقاط النظام" تتطلع في البدء الى تنحي هرم السلطة وتستتبعها بتطبيق تعاليم "اليوم التالي" مستفيدة من دعم العراب الخليجي والمساندة الانسانية للدول الأوروبية. الا أن التعنت الروسي ببقاء رأس السلطة كأساس للتفاهم كما عبر عنه الوزير لافروف مؤخرا يشي بامكانية فعلية لتعديل هذه الاستراتيجية التوافقية وارضاء كافة الأطراف ما يعني امكانية البقاء أو الرحيل "المشروط" للرئيس الحالي والزام قطاعات الثورة بقبول هذه الأوضاع من منطق أنها أفضل الموجود.
إن التحرك المتوقع سيكون له صدى كبيرا ليس اقله شرذمة المجلس الوطني السوري (أو حتى اندثاره)، ذلك التكوين الذي لم يستطع بعد أكثر من عام من تشكيله على تجاوز أزماته وفشل في تأكيد دوره في ريادة الثورة. من ناحية عملية تكمن "شطارة" المبادرة في أنها استطاعت أن تستجمع دعم القوى العالمية وتلاقت عندها "اطراف المعارضة" التي طالما طالبت هذه القوى تجميعها. وما يميزها أنها ليست مبادرة شخصيات معروفة بنزهاتها وبنشاطها السياسي والاقتصادي بقدر ما أنها صدرت عن شريحة اجتماعية هي البرجوازية السورية التي عبرت من خلالها عن موقف سياسي مباشر ومتكامل وذلك لأول مرة منذ أكثر من نصف قرن.
يبدو تعبير البرجوازية السورية ثقيلا على السمع، فالقواميس الجديدة أخرجته من مفرداتها كما اخرجت مفردات اخرى كتلك التي تتعلق بطبيعة الصراع وعليه جرت العادة على توصيف الثورة السورية بأنها ثورة الحرية والكرامة. لا شك أن هذه الصفات صحيحة ولكن لاشك أيضا أن هذا التعريبف يستفيد من توافق معظم المكونات المشاركة في الثورة ليتحاشى التعرض لطبيعة الصراع الدائر في سورية منذ ما يقارب العامين. فهذا الصراع هو صراع طبقي بامتياز بين شرائح المستفردين من الشعب السوري توالفت حولهم شبكات القربى والوجاهات المناطقية وبين كيان استبدادي توالف مع التركيبة المالية والعقارية السورية.
في هذا الصراع الحدي وقفت البرجوازية السورية مواقف متباينة وفق مناطق تواجدها وطبيعة أعمالها. ففي المدن الرئيسة انقسمت في ثلاث شرائح، مؤيدة للنظام ومساندة للثورة وثالثة ارتأت الوقوف على الحياد وترقب حيثيات المعارك. أما المؤيدة للثورة والتي تهمنا هنا فمنها المديني والمديني الريفي وقد كان التحول الذي قامت به البرجوازية الحضرية-الريفية ملفتا للنظر حيث استدارت من وضعها كمستفيدة ومتعاونة مع أركان النظام قبل الثورة الى تبني الثورة ودعمها في نية لمحاولة تزعمها . أما البرجوازية المدينية ذات الأصول التقليدية فقد دعمت الثورة ووسعت من دائرة تحركها مستفيدة من علاقاتها مع شبكات العلماء والمشايخ ومن معارفها من سياسيين ومثقفين. إن هذه الشريحة هي صاحبة مشروع المبادرة.
أعادت الثورة الى المجتمع السوري تفتحه بعد نصف قرن من التغول وجاءت تعبيرا لتوق المسفردين في التحرر ورغبتهم الهائلة لتفعيل مقدراتهم الخلاقة التي عملت آليات الهمينة والاستغلال والتهميش على اذلالها وتبخيسها وتوظيفها في تراكم هزيل ومتخلف. أما البرجوازية السورية التي استفادت من ذلك التفتح واشتغلت على نسج علاقات جديدة من داخل وخارج الثورة تبادر الآن لقطف الثمار وتأطير المد الثوري في خدمة مشروع هيمنتها. فما من شك أنها نجحت على تقديم نفسها كبديل اجتماعي للقوى الكبرى الى درجة تبنيها المبادرة والضغط على العراب الخليجي للقبول بها. ولكن الأخطر من ذلك أنها تمكنت من التأثير على قرارات المعارضة السورية في القاهرة بتبني وثيقتي العهد والمرحلة الانتقالية. بالنسبة للمستفردين، فعل الثورة ليست فقط اسقاط النظام بل شكل الدولة المستقبلي. وبالنسبة للبرجوازية جاءت وثيقة العهد لتتماشى مع تطلعاتها بتبنيها شكلا هشا من دولة "فوردية" متوافق ورأي الاخوان المسلمين في الحكم ونمط عائم من الحاكمية النيوليبرالية متوافق مع جمهور واسع من مثقفي باريس ولجان التنسيق المحلية.
البرجوازية السورية وغيرها تخشى المستفردين وثورتهم فاعتمدت في مناوراتها على ثلاث محاور،التبني الدولي لها ومحاولتها المستمرة للتكمن من القيادات العسكرية عن طريق العلاقة المشتركة مع الراعي الخليجي ومسك المبادرات الداخلية بواسطة تركيب مجالس مدنية أو مجالس محلية "من فوق".
يتهيىء للبعض أن مبادرة البرجوازية السورية هي لتقويض دور المجلس الوطني. الأمر ليس كذلك فدور المجلس الوطني هامشي على كل حال والمبادرة بكل بساطة هي سعي البرجوازية السورية لاستلام السلطة والاعلان "ان الثورة انتهت" على خطى مقولة نابليون الشهيرة. أما نجاح المبادرة أو فشلها فلن يعني الكثير بالنسبة للثورة الا مزيدا من التحديات الصعبة. فهي تعلم جيدا أنها يتيمة لأنها استثنائية كأول ثورة في العالم لفترة مابعد الحداثة كما تعلم من تجربتها أن عليها بذل المزيد من التضحيات وابتكار الأساليب لشد لحمتها الاجتماعية والمحافظة على استقلاليتها.